التعامل مع ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية من خلال المسرح

التاريخ:

إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، تأثّرت حياة الناس اليومية بالنزاع المسلح الذي خلّف تداعيات طويلة الأمد وصدمات غير قابلة للشفاء وذكريات غير مرويّة. من خلال فن المسرح، تنطلق النساء والفتيات في رحلة للبحث عن الحقيقة، وتحفيز عملية إحياء الذكرى الجَماعية، والمضي قدما في نهاية المطاف، نحو المصالحة.

في بدارو، وهو أحد الأحياء في جنوب بيروت في لبنان، يتم تجهيز مسرح "دوار الشمس" حيث إنه من المقرر أن يعرض العمل المسرحي "بقي حدا يخبر". ويستوي أكثر من 90 مشاركًا ومشاركة - بما في ذلك الجمهور وأعضاء المنظمات غير الحكومية المحلية والسفارات ووسائل الإعلام - في المقاعد استعدادًا لبدء المسرحية.

مؤديات يعدّن مشهداً يجري في مصنع قديم على خشبة مسرح "دوار الشمس" في بيروت، لبنان. الصورة: هيئة الأمم المتحدة للمرأة/ دار المصور.

يرتفع الستار ليكشف عن 12 مؤدية في وسط خشبة المسرح  حيث ملجأ للنساء – قائم في مصنع قديم - لجأت إليه بعض النساء طوعاً هربا من الحرب في حين أجبرت نساء أخريات على التواجد في المكان، ينصرفن إلى مشاركة تجاربهن الواحدة تلو الأخرى. "نحن ضحايا هذه الحرب، ومع تزايد الجرائم، فإننا ندفع الثمن الأعلى"، تصرخ إحدى الممثلات من أعلى خشبة المسرح. ها إن مجريات مسرحية "بقي حدا يخبر" تنجلي رويداً.

المسرحية عبارة عن بناء مبتكر يطرح تجربة علاجية مشحونة بالعواطف للتاريخ الشفوي، ذلك أن المسرحية تروي تجارب نساء خضن الحرب الأهلية في لبنان وهي نتيجة سلسلة من الحوارات عابرة للأجيال أعدّتها المنظمة النسوية اللبنانية "كفى"، بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، كجزء من برنامج التعامل مع الماضي*. أشرك البرنامج أكثر من 60 امرأة لبنانية من مناطق مختلفة من لبنان، في سلسلة من الحوارات لتبادل قصصاً مستلّة من الحرب، كجزء من عملية أوسع للتعامل مع الماضي. ثم تم تكييف هذه القصص مع المسرحية لخلق شخصيات نسائية من مجتمعات مختلفة دوّنت قصص النساء في صفحات تاريخ الحرب الأهلية.

من ضمن المشاركات في سلسلة الحوارات، وعددهن 60 مشاركة، تطوّعت إثنتا عشرة امرأة لإعادة تمثيل السيناريو في عمل مسرحي حيّ. تحت إدارة فرقة جمعية "لبن" للفنون المسرحية، تغوص المسرحية في الماضي السحيق. تتذكر "آية"، إحدى الشخصيات، رحلاتها في عطلات نهاية الأسبوع مع صديقها إلى "التلفريك"  (العربات المعلّقة) في جونيه، على بعد 20 كيلومترًا من بيروت. ثم تأخذ القصة منعطفًا مفاجئًا وتتبدد الرومانسية بسبب الحرب عندما ينضم شريكها الذي ينتمي إلى طائفة أخرى إلى احدى الميليشيات المحلية. والحال أن آية لم تره مرة أخرى، منذ ذلك الحين.

امتدّت الحرب الأهلية اللبنانية من 1975 إلى 1990 وأسفرت عن مقتل أكثر من 120 ألف شخص وفقد 17 ألف شخص آخرين وتشريد 76 ألف شخص ونزوح ما يقرب من مليون شخص [1]. على الرغم من تأثيرها المدمّر، فهناك نقص في توثيق تجارب النساء في أثناء الحرب. كنتيجة لذلك، لا يتمتّع الجيل الشاب بإمكانية الوصول إلى معلومات موثوقة حول تأثير الحرب على النساء والفتيات، مما سيمكنهن من فهم الإرث الذي يحملنه، والذي يشكل جزءًا من تاريخ البلاد وهويتها [2].

توفر الحوارات والمسرحية مساحة لإصلاح هذا الأمر وتهدف إلى استدعاء التعاطف والتفاهم، بدءا من التجارب المختلفة أثناء الحرب.

أعادت المؤديات تمثيل الأعمال الوحشية، بما في ذلك حكاية رهف وهي شخصية شاهدت وهي لا تزال في الرابعة عشرة من عمرها أفراداً من الميليشيات يقتحمون منزل عائلتها. سلّمها رجل مسلح بندقية وأمرها بقتل والدها، وهو الثمن الذي قالوا لها انه يجب دفعه لإنقاذ أفراد أسرتها الآخرين. رفضت رهف، وقتل أفراد الميليشيا أعضاء عائلتها، في حين أبقوها لوحدها على قيد الحياة وبلا أذى.

تعيد المؤديات تمثيل قصة رهف في مسرح دوار الشمس في بيروت، لبنان. الصورة: هيئة الأمم المتحدة للمرأة / دار المصور

في المشهد الختامي، يتم إرشاد الجمهور إلى يومنا هذا من خلال سرد قصة سناء. هذه الشخصية تلميذة في مدرسة ثانوية عملت بلا كلل لتطوير مشاركتها في مسابقة للكتابة الإبداعية في مدرستها، بغية سرد قصة جدّتها التي أوت إلى ملجأ النساء، فيتم إخبارها أن المحتوى "حساس للغاية" وهذا يمنع مشاركته مع الآخرين.

فليستمر العرض

تمثل المؤديتان الحكايات الحقيقية غير المروية لنساء خلال الحرب الأهلية، في مسرح "دوار الشمس" في بيروت، لبنان. الصورة: هيئة الأمم المتحدة للمرأة / دار المصور

بينما تسدل ستائر هذا العرض، تتواصل حيوات النساء في موازاة التزامهن بمواصلة العمل على بناء السلام والمصالحة.

جرى التعبير عن هذه المشاعر أيضًا في المراجعات التي قدّمها أفراد الجمهور وقال أحدهم " في ما يخصّ المصالحة والتعافي، فقد وجدت أن المسرحية ساعدت الممثلات والحضور على السواء، على التعافي النفسي. نحتاج إلى توسيع هذه المبادرة لتشمل جميع أنحاء البلاد".

قالت راشيل دور-ويكس، وهي رئيسة مكتب "هيئة الأمم المتحدة للمرأة في لبنان": "إن نجاح هذه المسرحية يمثل أهمية الحوارات الشاملة العابرة للأجيال. من خلال العمل الجماعي، أظهر هذان الجيلان قوة المرأة كعاملة تغيير في تحويل الصراع، في الماضي والحاضر والمستقبل ".

* يتم تنفيذ "برنامج التعامل مع الماضي" بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان وتحت قيادة مكتب المنسقة المقيمة للأمم المتحدة، وبدعم سخيّ من "صندوق الأمم المتحدة لبناء السلام" الذي أنشأه الأمين العام للأمم المتحدة.

 

_____________________________

[1] https://openborders.info/blog/lebanon-and-political-externalities-bleg/

[2] المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 2013. "إرث لبنان من العنف السياسي. مسح للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني في لبنان، 1975-2008 ".